لقد ذكرتم ان الغيبة امر الهي، اخذه الامام الحجة من آبائه الطاهرين، فما هي اسباب وعلّة غيبته عليه السلام؟
الجواب
نذكر في الجواب ما سطره؛ يراع استاذنا المفدى المؤلف دام ظله الشريف وهو:
اعلم؛ ان اختفاء سبب الغيبة عنا ليس مستلزما لصحة انكار وقوعها او عدم وجود مصلحة فيها، فان سبيل هذه وسبيل غيرها من الحوادث الجارية بحكمة الله تعالى سواء، فكما انه لا سبيل الى انكارالمصلحة في بعض افعاله تعالى مما لم نعلم وجه حكمته ومصلحته، لا طريق ايضا الى انكار المصلحة في غيبة وليه وحجته، فان مداركنا وعقولنا قاصرة عن ادراك فوائد كثير من الاشياء، وسنن الله تعالى في عالم التكوين والتشريع، بل لم نعط مدركات ندرك بها كثير من المجهولات، فالاعتراف بقصور افهامنا اولى، ولنعم ما قاله الشاعر:
وان قميصا خيط من نسج تسعة وعشرين حرفا عن معاليه قاصر
وقال بعضهم:
العلم للرحمن جل جلاله وس- واه في جهلاته يتغمغمما للتراب وللعلوم وانما يسعى ليعلم انه لايعلم وما احسن ادب من قال: علم الخلائق في جنب علم الله مثل لاشى ء في جنب مالا نهايه له.
وقال مولانا وسيدنا ابوعبدالله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام فيما روي عنه: (ياآدم، لو اكل قلبك طائر لم يشبعه، وبصرك لو وضع عليه خرق ابرة لغطاه، تريد ان تعرف بهما ملكوت السماوات والارض! )، والحاصل انه ليس علينا السؤال عن هذه، بعد اخبار النبي والمعصومين من اهل بيته (صلى الله عليهم اجمعين) عن وقوعها، ودلالة الاحاديث القطعية عليها، وبعد وقوعها في الامم السالفة، كما ذكره الامام في رواية سدير الطويلة.
قال المفيد- قدس سره- وثم وليّ لله تعالى يقطع الارض بعبادة ربه تعالى، والتفرد من الظالمين بعمله، وناى بذلك عن دار المجرمين، وتبعّد بدينه عن محل الفاسقين، لايعرف احد من الخلق له مكانا، ولا يدّعي انسان منهم له لقاء ولا معه اجتماعا، وهو الخضر عليه السلام موجود قبل زمان موسى الى وقتنا هذا باجتماع اهل النقل، واتفاق اصحاب السير والخبر، سائحا في الارض لايعرف له احد مستقرا، ولايدعي له اصطحابا الا ماجاء في القران به من قصته مع موسى عليه السلام، وما يذكره بعض الناس من انه يظهر احيانا ولايعرف، ويظن بعض الناس انه رآه، انه بعض الزهاد فاذا فارق مكانه توهمه المسمى بالخضر وان لم يكن يعرف بعينه في الحال ولا ظنه، بل اعتقد انه بعض اهل الزمان، انتهى كلامه في (الفصول العشرة).
ثم ذكرغيبة موسى ويوسف ويونس وغيرهم، هذا وقد صرح ابو عبدالله عليه السلام: بان وجه الحكمة في غيبته لاينكشف الا بعد ظهوره، وانه من اسرار الله (في رواية؛ عبدالله بن الفضل الهاشمي… الحديث)، فعليه يصحّ لنا ان نقول: بانّ السبب الاصلي في حكمته خفي عنّا، ولا ينكشف تمام الانكشاف الا بعد ظهوره.
نعم؛ لها فوائد ومصالح معلومة غيرذلك:
منها: امتحان العباد بغيبته، واختبار مرتبة تسليمهم ومعرفتهم وايمانهم بما اوحي الى النبي صلى الله عليه وآله، وبشر به عن الله تعالى، وقد جرت سنة الله تعالى بامتحان عباده، بل ليس خلق الناس وبعث الرسول، وانزال الكتب الا للامتحان، قال الله تعالى (انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه)، و قال عزّ شانه (الذي خلق الموت والحياه ليبلوكم ايكم احسن عملا)، و قال سبحانه: (احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لايفتنون)، ويستفاد من الاخبار التي وقفت عليها في هذا الكتاب؛ ان الامتحان بغيبة المهدي عليه السلام من اشد الامتحانات، وان المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد.
هذا مضافا؛ الى ان في التصديق وعقد القلب والالتزام والايمان بما اخبر به النبي (صلى الله عليه وآله سلم)، من الامور الغيبية؛ امتحانا وارتياضا خاصا، وثمرةٌ لصفاء الباطن وقوة التدين بدين الله تعالى، فامتحان الناس بغيبته عليه السلام يكون عملا وايمانا وعلما، اما عملا: فلما يحدث في زمان الغيبة من الفتن الشديدة الكثيرة، ووقوع الناس في بليات عظيمة بحيث يصير من اصعب الامور؛ المواظبة على الوظائف الدينية. واما علما وايمانا: فلانه ايمان بالغيب، فلا يؤمن به الا من كمل ايمانه، و قويت معرفته، وخلصت نيته.
والحاصل؛ ان الناس ممتحنون في الايمان بالله، والتسليم والتصديق بما اخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الا ان الامتحان بالايمان؛ بما انه كان من الامور الغيبية؛ ربّما يكون اشدّ من غيره وقد جاء التصريح بوصف هؤلاء المؤمنين في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب… )
الآيات؛ وذلك لان الايمان بكلّ ما هو غيب عنا ممّا اخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله؛ لا يحصل الا لاهل اليقين والمتقين الذين نجوا عن ظلمة الوساوس والشبهات الشيطانيّة، وانار نفوسهم نور المعرفة واليقين والايمان الكامل بالله ورسله وكتبه.
ومنها: انتظار كمال استعداد الناس لظهوره، فان ظهوره ليس كظهور غيره من الحجج والانبياء، وليس مبنيا على الاسباب الظاهرية والعادية، وسيرته ايضا؛ مبنيّة على الحقائق والحكم بالواقعيّات ورفض التقيّة والتسامح في الامور الدينيِة، فالمهدي عليه السلام؛ شديد على العمّال شديد على اهل المعاصي، وحصول هذه الامور محتاج الى حصول استعداد خاصّ للعالم ورقاء البشر من ناحية العلوم والمعارف ومن ناحية الفكر ومن ناحية الاخلاق حتى يستعدّ لقبول تعليماته العالية و برنامجه الاصلاحي.
ومنها: الخوف من القتل؛ يشهد التاريخ ان سبب حدوث الغيبة ظاهرا خوفه عن قتله، فإن اعداءه عزموا على قتله اطفاءا لنوره واهتماما بقطع هذا النسل الطيب المبارك ولكن يأبى الله الا ان يتم نوره.
ومنها: غيرها مما ذكر في الكتب المفصلة.
فإن قلت: اي فائدة في وجود الامام الغائب عن الابصار! فهل وجوده وعدمه الا سواء؟
قلت: اولا؛ ان فائدة وجود الحجة ليست منحصرة في التصرف في الامور ظاهرا بل اعظم فوائد وجوده ما يترتب عليه من بقاء العالم بإذن الله تعالى وامره كما ينادي بذلك قوله صلى الله عليه وآله:
(اهل بيتي امان لاهل الارض، فإذا ذهب
اهل بيتي ذهب اهل الارض). وقوله:
لا يزال هذا الدين قائما الى اثني عشر اميرا من قريش فإذا مضوا ساخت الارض باهلها)، وقال امير المؤمنين عليه السلام (اللهم بلى لا تخلوا الارض من قائم لله…… الخ
. وثانيا؛ ان عدم تصرفه ليس من قبله، والمسؤولية في عدم تصرفه متوجهة الى رعيّته.
واشار الى الوجهين المحقق الطوسي في التجريد بقوله: (وجوده لطف وتصرفه لطف آخر وعدمه منا).
وثالثا؛ نقول انا لانقطع على انه مستتر عن جميع اوليائه كما في (الشافي) و (تنزيه الانبياء) ؛ فإذا لا مانع عن تصرفه في بعض الامور المهمة بواسطة بعض اوليائه وخواصّه وانتفاعهم منه.
ورابعا: ماهو المسلم والمعلوم استتاره عن الناس، وعدم امكان الوصول اليه في الغيبة- الا لبعض الخواص وغيرهم احيانا لبعض المصالح- ولكن لا يلازم هذا استتار الناس عنه صلوات الله عليه، فإنه كما يستفاد من الروايات؛ يحضر الموسم ايام الحج، ويحجّ ويزور جده وآباءه المعصومين، ويصاحب الناس، ويحضر المجالس، ويغيث المضطر، ويعود بعض المرضى وغيرهم، وربّما يتكفل بنفسه الشريفة- جعلني الله فداه- قضاء حاجاتهم، والمراد من عدم امكان الوصول اليه في زمان الغيبة عدم امكان معرفته بعينه وشخصه.
وخامسا؛ لا يجب على الامام ان يتولى التصرف في الامور الظاهرية بنفسه، بل له تولية غيره بالخصوص كما فعل في زمان غيبته الصغرى، او على نحو العموم كما فعل في الغيبة الكبرى؛ فنصّب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالاحكام
للقضاء واجراء السياسات واقامة الحدود وجعلهم حجة على الناس، فهم يقومون في عصر الغيبة بحفظ الشرع ظاهرا وبيان الاحكام ونشر المعارف الاسلامية ودفع الشبهات وبكل ما يتوقف عليه نظم امور الناس.
وتفصيل ذلك يطلب من الكتب الفقهية وان شئت زيادة التوضيح فيما ذكر؛ فعليك بالرجوع الى كتب اكابر اصحابنا كالمفيد والسيّد والشيخ والصدوق والعلامة وغيرهم جزاهم الله عن الدين افضل الجزاء. [۱]
———-
[۱]: منتخب الاثر، ج ۲، حاشية ص ۲۶۱- ۲۶۴.
[غیبه المنتظر من منتخب الاثر – صفحه۷۸]