بحث للمصنف دام ظله في معنى الغيب وانه الامام المهدي عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين؛ روي في (كمال الدين) للشيخ الصدوق عليه الرحمة: عن داود بن كثير الرقي، عن ابي عبدالله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ (الذين يؤمنون بالغيب): يعني من (آمن) اقرّ بقيام القائم انه الحق.
وقال صاحب (التبيان): ويدخل فيه، في الغيب: مارواه اصحابنا من زمان الغيبة ووقت خروج المهدي عليه السلام ومثله؛ قال الطبرسي في (مجمع البيان).
قال النيشابوري في (غرائب القران) في تفسير قوله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب) ؛ وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله به في القرآن وورد في الخبر؛ (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض) ؛ لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من امتي يواطئ اسمه اسمى وكنيته كنيتي يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.
وذكر الفخر الرازي في التفسير ايضا؛ ان بعض الشيعة قال: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعدالله تعالى به في القران والخبر ثم ذكر الآية والخبر، ثم
قال: واعلم ان تخصيص المطلق من غير دليل باطل.
اقول: يظهر من كلامهما موافقتهما مع الشيعة في شمول اطلاق الغيب للمهدي المنتظر عليه السلام؛ اذ لامجال للمناقشة في مثل ذلك بين اهل العلم، ويظهر من عدم انكارهما على الشيعة؛ في ان الله وعد بالمهدي المنتظر في القرآن ايضا موافقتهما مع الشيعة وما جاء من طرقهم في تفسير الآية.
ولما انجر الكلام الى ذلك لا بأس باضطراره في معنى الغيب، وان الآية هل فسرت بالمهدي عليه السلام من باب الجري والتطبيق او الاختصاص؟ وبيان تمام المراد فنقول:
بحث تفسيري
كل ما غاب عن الشخص، ولا يدرك بواحدة من حواسه الظاهرة؛ فهوغيب بالنسبة اليه، وما غاب كذلك عن الجميع؛ فهو غيب بالنسبة اليهم، سواء كان ذلك الغيب مما تهتدي اليه العقول ويدرك بالدلائل والآثار والآيات، كوجود الله تعالى شانه، وصفاته العليا، واسمائه الكبرى، او كان الاهتداء اليه؛ باخبار الانبياء والاولياء، الذين كان اخبارهم عن هذه الامور من خوارق العادات؛ كاشراط الساعة، و عذاب القبر، والصراط، والميزان، والجنة والنار، والانباء بافعال الناس في الخلوات، واقوالهم،‌ام لا يهتدى اليه مطلقا؛ لابالعقول ولا بغيرها، كحقيقة ذات الله المقدسة، وسواء كان عدم ادراك ذلك الغيب بالحواس؛ لانه لم يكن من المبصرات والمسموعات وغيرها من المحسوسات، او كان من ذلك؛ ولكن كان
الاطلاع عليه لم يحصل عادة الا للاوحدي من الناس، على سبيل خرق العادات- كانباء الناس بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم- وسواء كان هذا الغيب موجودا في حال الايمان به او وجد في الماضي وطرأ عليه الانصرام والانعدام، او كان مما يوجد في المستقبل. فكل ذلك من الغيب؛ اذا كان مما يمتنع ادراكه او لايدرك الا بالعقول والافهام او لا يدرك بالحواس في بعض الاحوال للجميع او للبعض الا بالاعجاز وخرق العادات، فالله تعالى الازلي الابدي السرمدي غيب لانه لا يهتدى اليه الا بالعقول والافهام، واشراط الساعة، ونزول عيسى، وظهور المهدي عليهما السلام، و سؤال منكر و نكير، وعذاب القبر، والصراط، والميزان، والجنة والنار، وكيفية بدء الخلق، وخلق آدم والمسيح، وكيفية الجزاء والعقاب، والملائكة واصنافها، والوحي النازل على الانبياء، واحوال الانبياء والامم الماضية، والحوادث الآتية، وكذا معجزات الانبياء المنصرمة؛ كقلب العصا ثعبانا، وناقة صالح، وفلق البحر، وابراء الاكمه والابرص، مما جاء في القران والاحاديث المعتبرة، وغير ذلك؛ مما لا طريق لمعرفته عادة الا باخبار النبي او الولي، كلها غيب؛ لانه لا طريق من العقول اليها وليس لمعرفتها طريق الا اخبار من يخبر عن الغيب بالعناية الربانية، هذا وربما يقال: بظهور الغيب في غير الامور المعلومة بالدلائل العقلية والآثار والآيات الظاهرة؛ كوجود الله تعالى، وصفاته واسمائه، وغير ما هو المعلوم على الجميع، وما ثبت وجوده بالتواتر، مثل؛ البلاد النائية، ووجود الشخصيات المشهورة في التاريخ، ووجود الاجداد والجدات، وبناة الابنية، وما على الارض من آثار الاقدمين، ولذلك فسّر بعضهم الغيب في هذه الاية؛ بكل مالاتهتدي اليه العقول من: اشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر والنشر، والصراط والميزان والجنة والنار، قال الراغب في المفردات: الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها، اذا استترت عن العين، يقال؛ غاب عني كذا، قال تعالى (ام كان من الغائبين)، واستعمل في كل غائب عن الحاسة؛ وعما يغيب عن علم الانسان، بمعنى الغائب، قال (وما من غائبة في السماء والارض الا في كتاب مبين)، ويقال للشى ء: غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى، فانه لا يغيب عنه شى ء، كما لايعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والارض، وقوله: (عالم الغيب والشهادة) اي؛ ما يغيب عنكم وما تشهدونه، والغيب في قول (يؤمنون بالغيب): مالا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداية العقول وانما يعلم بخبر الانبياء عليهم السلام، وبدفعه يقع على الانسان اسم الالحاد، ومن قال: الغيب؛ هو القران ومن قال: هو القدر؛ فاشارة منهم الى بعض ما يقتضيه لفظه، وقال بعضهم: معناه يؤمنون اذا غابوا عنكم وليسوا كالمنافقين الذي قيل فيهم (واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزؤون).
وقال شيخنا الطوسي (تفسير التبيان سورة البقرة ضمن قوله تعالى الذين يؤمنون بالغيب) ؛ وقال جماعة من الصحابة كابن مسعود وغيره: ان الغيب ما غاب عن العباد علمه، من امر؛ الجنة والنار، والارزاق، والاعمال، وغير ذلك، وهو الاولى؛ لانه عام، ويدخل فيه؛ مارواه اصحابنا من زمان الغيبة، ووقت خروج المهدي عليه السلام.
ويمكن ان يوجه ذلك التفسير: بان معنى الغيب؛ وان كان عاما يشمل الامور المعلومة التي لا تدرك الا بالعقول، الا ان من الممكن ان تكون الالف واللام هنا للعهد، واريد به، ماروي عن ابن مسعود وغيره، لا الجنس، الا انه يمكن ان يستظهر من طائفة من الاحاديث التي اخرجها المفسرون في تفسير الآية كون؛ معناه عاما يشمل ما غاب عن العباد رؤيته وان لم يغب عنهم علمه والله اعلم.
ثم لا يخفى عليك؛ ان بعضهم فسّر الغيب وقال: يجوز ان يكون؛ (الغيب) في موضع الحال، ولا يكون صلة ليؤمنون، اي يؤمنون غائبين عن مرأى الناس، وهذا التفسير مضافا الى انه هنا؛ خلاف الظاهر، تردّه الروّايات المعتبرة واقوال الصحابة.
نعم لعله؛ هو الظاهر من مثل قوله تعالى (وخشي الرحمن بالغيب وقوله تعالى (الذين يخشون ربهم بالغيب).
ولا يخفي عليك؛ ان لهم في تفسير الآية، والفرق بين الغيب والغائب، كلمات واقوالا، غير ما اشرنا اليه، من ارادها فليرجع الى التفاسير الكبيرة.
ثم انه لا ريب – على جميع التفاسير المؤيدة بالاحاديث واقوال الصحابة ومشاهير المفسرين-: ان المراد بالغيب؛ ليس كل ما غاب عن الحواس، لانه لاريب في عدم وجوب الايمان بكل ما كان كذلك، وليس في الايمان به، ومعرفته غرض ومصلحة ترجع الى كمال الانسان، واهداف النبوات، فلا يجب الايمان بالكائنات الغائبة عن الحاسة، او الوقائع الماضية والآتية، التي لا شأن لمعرفتها في الدين، فالغيب؛ كل ما كان كذلك مما يجب الاعتقاد به شرعا او عقلا او لايجوز انكاره والشك فيه بعد اخبار النبي والولي عنه، ويجب التصديق به، وان لم يكن مما وجب الاعتقاد به والفرق يظهر بالتأمل.
كما لا ريب؛ في ان الايمان بعالم الغيب وعالم الباطن وغير المحسوس، في مقابل عالم الشهادة، والظاهر والمحسوس واجب، سواء كان الغيب في هذه الآية يشمله او لايشمله، فالاعتقاد بان دار التحقق والوجود لا يقصر على عالم الشهادة، والمحسوس؛ هو اصل دعوة الانبياء ودعوتهم اقيمت على الدعوة بالغيب المسيطر على هذا العالم والايمان بجنوده الغيبية كجنوده المشهودة المحسوسة، وعلى ان هذا العالم آية عالم الغيب، وان عالم الشهادة متاخر عن عالم الغيب، كتاخر الاثر عن المؤثر، والمصنوع عن الصانع، والمكتوب عن الكاتب، والكلام عن المتكلم، بل الحق الثابت و الذي لا ينفد ولا ينقضي ولا يفنى ولا يبيد هو؛ ان عالم الغيب وعالم الشهادة بالنسبة اليه، كالظل، وهو بجميع مظاهره جولات عالم الغيب وآياته.
اللهم ارزقنا الايمان بك وبكل ما غاب عنا من قدرتك وجلالك، واذقنا حلاوة الايمان حتى لا نحب تأخير ما قدمت ولا تعجيل ما اخرت.
هذا وقد ظهر لك مما تلونا عليك في هذا البحث الطويل؛ ان الايمان بالمهدي الذي بشرت به الرسل وبشر به خاتمهم وسيدهم صلى الله عليه وآله، وثبت ذلك عند الفريقين بالتواتر القطعي، واتفق المسلمون عليه، داخل في الغيب الذي وصف الله بالايمان به المتقين، والروايات الواردة في ذلك عن اهل البيت عليهم السلام؛ فسّرت الآية به على سبيل الجري والتطبيق، لاجل التنبيه على دخول ذلك فيه، ولو لم ترد تلك الروايات ايضا في تفسير الآية.
لكنّا نقول: بدخوله، ودخول غيره في الغيب، مما ثبت من الشرع وجاء في القران المجيد او اخبر بها النبي صلى الله عليه وآله: كنزول المسيح، ودابة الارض، وانشقاق السماء، وانفطار الارض، وغير ذلك؛ كخلافة الائمة الاثني عشر، وظهور الاسلام على جميع الاديان.
والشاهد على ان ذلك من باب التطبيق وذكر افراد المعنى الكلي، مارواه؛ علي بن ابراهيم، بسنده عن ابي عبدالله عليه السلام، في تفسير؛ (الذين يؤمنون بالغيب) قال: يصدقون بالبعث و النشور والوعد والوعيد، فمن العجب! ان الآلوسي اخذ على الشيعة، ويقول في تفسيره: (واختلف الناس في المراد به هنا على اقوال شتى حتى زعمت الشيعة انه القائم وقعدوا عن اقامة الحجة على ذلك)!.
فكانه؛ لم يفهم مراد الشيعة او حرّف كلامهم، ويرى؛ ان الشيعة تقول: ان المراد بالغيب هو القائم عليه السلام دون سائر ما اخبر به النبي صلى الله عليه وآله من الغيوب.
ثم يقول: وقعدوا عن اقامة الحجة على ذلك! حتى يوقع قارئة في الخلط والاشتباه، وهذا دأب امثاله لما يروّن صحة مختار الشيعة، فينقلونه على غير وجهه، وهنا ايضا؛ لما يرى ان دخول زمان الغيبة وظهور المهدي عليه السلام؛ الذي ثبت بالاخبار المتواترة في الغيب، لا محل لانكاره، حمل كلام الشيعة؛ على انهم يفسرون الايمان بالغيب بخصوص الايمان بالقائم عليه السلام، سلمنا ذلك ونحمل الروايات الواردة عن العترة الطاهرة في حصر المراد بالغيب هنا بالمهدي عليه السلام، (كما هو ظاهر خبر يحيى بن ابي القاسم عن الصادق عليه السلام وان كان في منع ظهوره ايضا مجال): على التعظيم لامره، لان به يختم الدين ويظهر الاسلام على الدين كله، ويملأ الارض قسطا وعدلا، ويفتح حصون الضلالة.
فاية حجة اقوى من تفسير اهل البيت، احد الثقلين الذين جعل التمسك بهما امانا من الضلالة، والعجب ممن يأخذ دينه عن النواصب واعداء اهل البيت والجبابرة والمعروفين بالفسق والكذب وانواع الجنايات والخيانات ويحتج باقوالهم ثم يقول، في شأن من ياخذ باقوال امير المؤمنين علي عليه السلام والمتمسكين باهل البيت الذين عندهم علم الكتاب: انهم قعدوا عن اقامة الحجة! فانا لله وانا اليه راجعون. [۱]
الفصل الاول: في اثبات ولادته واثبات وجوده الشريف و من رآه زمن ابيه عليهما السلام
———-
[۱]: منتخب من حاشية المؤلف على منتخب الاثر، ج ۲، ص ۲۱- ۲۵ بتصرف.
[غیبه المنتظر من منتخب الاثر – صفحه۱۵]

Share your thoughts